الإعلام في زمن الحرب: إعادة توضيب وإرسال الدعاية “الإسرائيلية”!
|| صحافة ||
من المفارقات الثابتة في لبنان أن الإعلام يلعب دوراً متباين الاتجاهات في أوقات الأزمات، بالنظر إلى تركيبة لبنان الفريدة اجتماعياً وسياسياً. لكن ذلك لا يبرر بحال من الأحوال عدم وجود قواسم مشتركة تجمع اللبنانيين على مصلحة وطنية، تقوم على حماية البلد من العدوان الخارجي والتآزر للتغلب على المحن الإنسانية التي ترافقه.
وفي حين يقوم بعض وسائل الإعلام بمهامه في إطار ما يراه التزاماً بالمبادئ الوطنية والقيم الإنسانية، يوغل بعضها الآخر في اتّباع أجندات ضيقة ترى في الظرف الحالي الصعب والقاسي فرصة لتحقيق مكاسب سياسية، وهو لا يتورع في ذلك عن إعادة إرسال الدعاية “الإسرائيلية” بعد توضيبها في إطار لبناني، موسّعاً نطاق نشر هذه الدعاية في سردياتها ورواية الأحداث واستخدام المصطلحات الخاصة بها. وتستهدف هذه الجهود المقاومة والجمهور المؤيد لها، كما تستهدف المحايدين أو المتعاطفين إنسانياً مع هذا الجمهور في محنته الراهنة.
عناصر الحملة الإعلامية المعادية:
تقوم الحملة الإعلامية التي ترمي للضغط على المقاومة في هذه المرحلة، على العناصر الآتية:
1- المشاركة في تبرير العدوان الصهيوني: حيث تبنى بعض الإعلاميين المعروفين وقنوات تلفزة ومواقع لها تاريخ من العداء مع المقاومة ادّعاءات العدو بأن المقاومة تخزّن الصواريخ على سطوح المنازل وفي داخلها، أو أن كل بناء يوجد فيه مسؤول أو قيادي أو حتى عنصر من حزب الله (مثل الزعم بوجود الحاج وفيق صفا في مبنيين قصفهما جيش العدو في بيروت، والزعم باستئجار مراسل المنار المبنى المستهدف في أيطو زغرتا)، مما يوفر منطقاً ذرائعياً لا مثيل له لتبرير الجرائم والمجازر الوحشية التي يرتكبها العدو والتي تخالف قوانين الحرب الدولية والقوانين الإنسانية.
2- المساهمة في نشر أهداف محتملة للعدو لإشاعة الذعر، بل وإرشاده على بعض الأماكن، مثل القول إن مطار بيروت أو منشآت قريبة منه تحوي مخزونات أسلحة، ما يشكل ذريعة إضافية للعدو لضرب هذا المرفق الحيوي الذي لا يزال منفذاً للمواطنين الذين يريدون السفر أو لوصول المساعدات الخارجية.
3- ترويج الهزيمة: فقد سارع بعض الساسة في لبنان إلى البناء على مجريات العدوان في الأيام الأولى، للقول إن حزب الله تلقى ضربة شبه قاضية من الناحية العسكرية، وعليه أن يسلّم بالنتائج مع ما يترتب على ذلك من ترتيبات أمنية في الجنوب أو نتائج سياسية في الداخل. وهذه المقولة تبناها حتى بعض من لا يقفون موقف عداء من المقاومة، لكنهم تحت تأثير الحملة العسكرية والسياسية والإعلامية استسلموا لشروط العدو، غير متنبّهين إلى أن ذلك يشكل مكافأة له وانتصاراً تاريخياً سيترك آثاره لوقت طويل في لبنان والمنطقة.
4- محاولة عزل حزب الله عبر الإيحاء بأنه يقف وحده في المواجهة الحاصلة وأنه يُعرّض لبنان بموقفه هذا لمخاطر جسيمة، وبالتالي فهو من سيتحمل المسؤولية الأخلاقية عن الدمار الجاري والآتي، مع إغفال مسؤولية العدو المجرم وداعمته الأولى الولايات المتحدة الأميركية، والتنكر لضرورة حماية لبنان من الاختراق الصهيوني وشروطه الجائرة تحت سطوة العدوان.
5- التقليل من صمود المقاومة وإنجازاتها التي تسجَّل يومياً في مواجهة محاولات التقدم المعادية أو ضربها قواعد العدو الخلفية، ما يشكل مفاجأة غير سارة للمراهنين على استسلام المقاومة وهزيمتها.
6- التهويل بقدرات العدو ونقل تقارير تُوهم الجمهور اللبناني بأن العدو في صدد القيام بحملة برية تؤدي إلى احتلال مناطق جنوب الليطاني وما شاكل، كأننا في أجواء اجتياح مشابه لظروف عام 1982، في وقت لا تزال المقاومة تواجه جيش العدو على تخوم قرى الحافة الأمامية بعد أسبوعين من اندلاع المعركة البرية.
7- مواصلة إطلاق شائعات هدفها تفكيك محور المقاومة عبر محاولة فصل لبنان عن غزة، وفصل لبنان عن إيران. في الجانب الأول، يستثمر الإعلام المناوئ للمقاومة نتائج العدوان للقول إن ذلك يجسّد ضرورة وقف الحرب بأي ثمن، سواء بوقف التضامن مع الشعب الفلسطيني في غزة، أو بإنهاء المقاومة في الجنوب. وفي الجانب الآخر، لم تتوقف آلة الدعاية التي تتغذى من قنوات التطبيع عن توضيب شائعات تحمّل إيران المسؤولية عن استشهاد سيد المقاومة بادعاء أنها “سلّمته لإسرائيل” (ومن ذلك أكذوبة احتجاز قائد قوة القدس العميد إسماعيل قاآني للتحقيق معه في شأن الاغتيال)، أو ان إيران تخلّت عن المقاومة. وهذه الأراجيف يبثها مطبخ الإعلام المطبّع مع العدو ويردّدها الإعلام الببغائي في لبنان من دون فحص أو نقد بحجة أنه مجرد “ناقل للكفر”.
8- التركيز على صور الدمار في المباني المدنية والمصابين، مما يبعث على مشاعر الإحباط وتيئيس الجمهور اللبناني، إضافة إلى تحميل المقاومة ضمناً المسؤولية عن هذا الدمار.
9- التحريض على الدفاع المدني في الهيئة الصحية الإسلامية، عن طريق تبنّي مقولة العدو بأن سيارات الإسعاف العائدة للهيئة تنقل مقاومين وأسلحة، ما يعطي مشروعية لقصف مراكز الإسعاف والدفاع المدني التابعة للهيئة، وهو ما حصل في العديد من المناطق وأوقع عدداً كبيراً من الشهداء من رجال الإسعاف والإنقاذ.
10- التحريض على النازحين بطرق مختلفة: تارة بالتطرق إلى حصول إشكالات في مناطق ذات صبغة متنوعة أو مختلفة سكانياً، وتارة ثانية بادعاء وجود عناصر لحزب الله في بعض مراكز الإيواء في منطقة الصيفي- الأشرفية، وطوراً بادّعاء تفشّي حالات صحية مُعْدية بين النازحين (الجَرَب) بهدف خلق جدار نفسي عازل بين المجتمع المضيف والنازحين من أرضهم، أو بالتخويف من أن النزوح سيطول أمده ما قد يترتّب عليه – وفق هذا المنطق- تغييرات ديمغرافية. وهذه المخاوف المفتعلة تدفع باتجاه إعادة إحياء حملة “ما بدنا نستقبلهم” التي أطلقها بعض المُرجفين قبل الحرب ثم خمدت لاحقاً بعد ردود واسعة عليهم.
أهداف الحملة
تخدم جميع هذه العناصر الدعائية هدفاً مركزياً هو إضعاف المناعة الوطنية في مواجهة العدوان الوحشي، وتتفرع منه مجموعة أهداف مهمة:
أولاً: بث الإحباط واليأس في صفوف المواطنين بهدف دفعهم للانحياز إلى الخيارات التي يفرضها العدو والمتمثلة بالتسليم لإرادته وشروطه.
ثانياً: تأليب الرأي العام الداخلي ضد المقاومة بوصفها مسؤولة أولى عن إجرام العدو، ما يعني تحميل الضحية مسؤولية ارتكابات المعتدي. مع العلم أن المقاومة عملت لعام مضى على إبعاد خيار الحرب الشاملة ما أمكن ذلك، ولو عن طريق دفع أثمان من دماء أبنائها والجمهور المناصر لها.
ثالثاً: تهيئة الأرضية والنفوس لعدوان أوسع في حال لم يتمكن العدو من تحقيق هدفه المعلن في “كسر حزب الله”، عن طريق القول إن الآتي سيكون أشد في حال لم تنصاعوا الآن.
رابعاً: هزّ الاستقرار الداخلي كعامل مساعد في الضغط على المقاومة. وهناك إعلام وساسة وعملاء ينخرطون في تشكيل هذا الهدف من خلال تصريحات وخطابات وممارسات يومية. وينظر فريق داخلي إلى العدوان على أنه فرصة قد لا تتكرر لقلب المعادلة الحالية ونقل البلد إلى معسكر الغرب والتطبيع مع العدو، وأن الانخراط في أحداث هذه المرحلة لا بد منه للتأثير في تحقيق هذا الهدف.
خامساً: استثمار أي اعتداء “إسرائيلي” على مناطق لبنانية حليفة لحزب الله وتجييره سياسيًا في المعركة الرئاسية، أو إعلاميًا من خلال إحراج حلفاء الحزب وتخويفهم من ممارسة دورهم في احتضان النازحين في المناطق التي لهم فيها حضور سياسي وشعبي، كمثل إشاعة أن الغارة على بلدة أيطو في زغرتا بالشمال اللبناني استهدفت مراسلاً لقناة المنار تارة أو مخازن صواريخ لحزب الله تارة أخرى.
درس وعِبرة من أداء العدو
وفيما ينفتح الهواء الإعلامي في لبنان للدعاية “الإسرائيلية” المباشرة وغير المباشرة، ثمة مفارقة في كيان الاحتلال، حيث يتقيّد الإعلام – “الإسرائيلي” منه والأجنبي- بمجموعة ضوابط تحدّدها له الرقابة العسكرية كشرط من شروط الإذن بممارسة المهنة. ومن ضمن هذه الشروط عدم التطرق إلى الهجمات الصاروخية التي تستهدف مواقع حساسة في الكيان، وعدم ذكر أماكن وجود كبار القادة والضباط في ساحة المعركة أو نوع الأسلحة التي يستخدمها جيش الاحتلال، وعدم نشر المداولات الأمنية لمجلس الوزراء، وعدم تناول موضوع المحتجزين والأسرى في غزة.
ووزّع جيش الاحتلال مذكرة بتفاصيل “الممنوعات” التي يجدر بالصحفيين التقيد بها، وإلا واجهوا ملاحقة وعواقب قانونية، مثلما حصل مع الصحفي الأميركي جيريمي لوفريدو الذي يعمل لموقع “غرايزون” الإخباري، وقد اعتُقل بتهمة نشر تقرير مصور حول الهجوم الإيراني الصاروخي الأخير من دون موافقة الرقابة العسكرية التي تتبع لشعبة الاستخبارات في الجيش. ويتوجب على الصحفيين عرض المواد الأمنية التي يعدّونها على الرقابة العسكرية، وتم بالفعل إخضاع اكثر من 6500 مادة إعلامية للفحص المسبق من جانب هذا الجهاز العسكري- الإعلامي منذ بدء العدوان على غزة، وتم منع 613 مقالاً من النشر عام 2023 وحذف أجزاء من 2703 مواد إخبارية خلال الفترة نفسها. ودفعت هذه القيود العديد من الصحفيين إلى ممارسة الرقابة الذاتية تحاشيًا للمنع والحذف.
يدفع كل ذلك للتأكيد على أهمية إعادة مراجعة الأداء الإعلامي اللبناني المتفلت من الضوابط القانونية والمقبل طواعية على بث الدعاية “الإسرائيلية”، فيما سقط آخرون في فخ التعجّل والتسرع والسبق الصحفي. وفي كل الحالات، يدفع لبنان ثمناً معنوياً وأمنياً كبيراً من جراء هذا الأداء الرخيص وغير المهني وغير المسؤول، في ظرف يتطلب تحمل أعلى مستويات المسؤولية الوطنية والإنسانية. وهنا يعود السؤال عن دور وزارة الإعلام والمجلس الوطني للإعلام والقضاء: أين هم من كل ما يجري ويصل إلى حد العمالة تحت ذريعة “حرية الاعلام”؟ ولماذا لا تُفرض الرقابة على ما ينشر من مواد إعلامية خطيرة، لا سيما أن كل القوانين في العالم تبيح اتخاذ إجراءات استثنائية صارمة بحالة الحرب منعًا لتهديد الأمن القومي ومصالح البلد ومرافقه الحيوية.
العهد الاخباري: علي عبادي