الهجرة النبوية حدث تاريخي فارق ارتبط بها تاريخ الإسلام
مناسبة الهجرة النبوية حدث تاريخي عظيم ارتبط بها تاريخ الإسلام ومثلت نقلة عظيمة ومهمة جداً نتج عنها تحول في الواقع العالمي وفي الواقع البشري وترتب عليها نتائج مهمة جدا، ونحن كأمة مسلمة وكشعب يمني مسلم نحن أحوج ما نكون إلى أن نستلهم في هذه المحطات التاريخية ما نحن في أمس الحاجة إليه فيما نواجه من مشاكل وتحديات وأخطار كبيرة.
كشعب يمني مسلم وكأمة مسلمة ومن واقع ما نعاني منه وما نواجه من تحديات وأخطار وأزمات ومشاكل نحتاج إلى العودة إلى الرسول (صلوات الله عليه وعلى آله) في موقعه في القدوة والقيادة وإلى القرآن الكريم كمنهج لاستلهام ما نحتاج إليه من دروس وعبر وللاستنارة بنور الله سبحانه وتعالى هذا الرجوع سنستفيد منه الرؤية الصحيحة التي نسير فيها على هذه الحياة ونبني عليها مواقفنا واتجاهاتنا وتصرفاتنا وأعمالنا وسلوكنا …إلخ، وكذلك الطاقة المعنوية والروحية التي نكتسب منها العزم ونكتسب منها الصبر والتحمل للنهوض بالمسؤولية ولمواصلة السير في الدرب والطريق الصحيح.
لقد أصَّلّت الهجرةُ النبويةُ لخاتم الأنبياء والمرسلين مُحَمَّـد (صلواتُ الله عليه وعلى آله) لمرحلة جديدة، وأرست معالمَ عالم جديد، عالَمٌ يقودُه مُحَمَّـدٌ صلواتُ الله عليه وعلى آله غيَّرَ فيه كـُـلَّ ما كان سائداً من حالة الكفر والشرك والظلام والضلال، والجهل والفساد، والتخلف والتناحر في المنطقة العربية، ومن ثم امتدت أنوارُ هذا الهدى، ومعالمُ هذا الدين ومهامه وقيمه إلَـى أنحاء المعمورة..
لقد حدَثَ في الهجرة النبوية أَن مجتمعاً خسر، ومجتمعاً فاز، مجتمع مكة الذي لم يستجب للإسْلَام، ولقيم الإسْلَام ومبادئ الإسْلَام، ولم يلتف حول الرَّسُـوْل مُحَمَّـد (صلواتُ الله عليه وعلى آله) وحول راية الإسْلَام، باستثناء القليل الذين آمنوا وثبتوا ثم هاجروا وصبروا، لكن مجتمعاً آخر هو مجتمع يثرب، حيث الأوس والخزرج، حيث الأَنْصَـار، الذين سماهم الله، وسماهم الرَّسُـوْل بالأَنْصَـار، مجتمعاً آخر فاز هو بأن يحمل راية الحق راية العدل، راية الهدى راية الإسْلَام، وأن يكونَ هو المجتمع الذي تتكونُ فيه نواةُ الأُمَّة الإسْلَامية والمجتمع المسلم، فيحتضنُ الرسالةَ، ويحضن الدين، ويحتضن الهُدى، ويحتضن نورَ الوحي..
وبجهود المؤمنين مع رَسُـوْل الله صلوات الله عليه وعلى آله، بجهوده العظيمة، وجهود المؤمنين معه من المهاجرين والأَنْصَـار، تمكن الرَّسُـوْل صلوات الله عليه وعلى آله بنصر الله، بتأييد الله، من تغيير الواقع في المنطقة تغييراً جذرياً وعجيباً، يدلل على عظمة الإسْلَام الحق في حقيقته الناصعة العظيمة المؤثرة المشرقة البناءة
والهجرة هي إرادة، وهي عزم، وهي تصميم، وهي ثبات على المبادئ والقيم، وهي رمزٌ للتضحية والعطاء، ولذلك تبقى الهجرة النبوية محطة تَأريخية مهمة، تستلهم منها الأُمَّةُ الدروسَ التي هي بحاجة إليها، دروساً تزيد من عزمها وصبرها ووعيها وثباتها وعطائها إلَـى آخر ذلك.
التاريخ الهجري
وهو التاريخ الذي اختاره المسلمون ليكون هو التاريخ الذي يعتمدون عليه، والذي ترتبت عليه تحولات كبيرة في واقع الأمة، وفي الواقع البشري عموماً، وهو تاريخ مهمٌ جداً بالنسبة لنا كمسلمين، فيما يعنيه لنا، وفيما يقدِّمه لنا من دروس ذات أهمية كبيرة من وحي الهجرة النبوية، وللأسف الشديد هناك تفريطٌ كبير في الاهتمام بالتاريخ الهجري، وعوضاً عن ذلك توجه الكثير إلى الارتباط بالتاريخ الميلادي.
من المفترض أن نسعى لإعادة الاعتبار للتاريخ الهجري، لما يربطنا به من ارتباطات دينية: كشهر رمضان المبارك، وكفريضة الحج… ونحو ذلك، ولذلك في كل مناسبة من هذه المناسبات نتحدث عن هذا الموضوع؛ لأهميته، وللفت النظر إليه.
الهجرة النبوية …دروس مهمة
الهجرة مثلت نقطة تحول كبيرة في مسار الدعوة الإسلامية، ومحور ارتكاز لنجاح المشروع الإلهي، فكان أهم ما تحقق للمجتمع البشري عامة، وللمجتمع العربي خاصة، فقد حملت الرسالة الإلهية -التي هاجر النبي -صلوات الله عليه وآله لنشرها خارج مكة، بعد 13 عاما من الدعوة في ذلك المجتمع-الكثير من الفوائد، والعناصر الإيجابية والتي من أهمها:
إنقاذ الأمة من شرور الجاهلية
الهجرة النبوية تقدِّم لنا دروساً مهمة، نحتاج إليها في كل زمان ومكان، وعندما نعود بالذاكرة إلى العصر الجاهلي، سنجد أن البشرية كانت تعاني من جاهلية جهلاء، وتعاني من ويلاتها، وظلماتها، وظلامها، وظلمها، وفسادها، وقد وصل بهم الحال إلى مراحل سيئة جداً، إلى درجةٍ باتوا يستشعرون فيها الحاجة الملحة إلى الإنقاذ من ذلك الوضع الرهيب والدنيء جداً في المجتمعات البشرية كلها، وباتوا يستشعرون الحاجة إلى منقذٍ ومخلِّصٍ من تلك الوضعية السيئة.
وأول المنتظرين لمن يخلصهم هم أهل الكتاب، فقد كانوا يترقَّبون في تلك المرحلة ظهور نبيٍ، هو آخر الأنبياء، وخاتم الأنبياء، ليكون منقذاً للبشرية، ومخلِّصاً لها من تلك الوضعية الرهيبة، التي طغى فيها العهد الجاهلي بكل ظلامه، يقول الله عنهم في القرآن الكريم: {وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا} فكانوا يؤمِّلون أن يأتي هذا المخلِّص العظيم، والمنقذ الكبير، الذي ينقذ الله البشرية على يديه.
ثانيا / المجتمع القرشي في مكة، التي تعد المركز الديني، والموقع المقدَّس، الذي يرتبط به العرب على مستوى الحج، فهذا المجتمع -أيضاً- كان يعيش حالة من الحسرة والأمنيات في تطلعهم إلى منقذ، إلى مخلِّص، وإلى هدى يأتي، يقول الله “سبحانه وتعالى” عنهم: {وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَهُمْ نَذِيرٌ لَيَكُونُنَّ أَهْدَى مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ}، فكانوا يتحسَّرون، وكانوا يتمنون أن لو يأتي نذير؛ ليؤمنوا به، ليكونوا أنصاراً له، ليتحركوا تحت رايته، ليتفوقوا على غيرهم من الأمم على المستوى الروحي، والثقافي، والفكري، ثم على المستوى الحضاري والواقع.
فكانت النعمة من الله عظيمة، وكبيرة جداً، عندما بعث رسوله، وخاتم أنبيائه محمداً “صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله”، وأنزل عليه القرآن العظيم، لإخراج الناس من الظلمات إلى النور، قال تعالى {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ}، وهذا ما عمله النبي “صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله” فقد قام بهذه المهمة، وسعى بكل جهده لإخراج الناس من الظلمات بكل أنواعها: ظلمات الجهل، والضلال، والباطل، إلى النور، نور الهداية الإلهية، بكل ما يترتب عليه في واقع الحياة.
إنقاذ المجتمع من الأمّية
ثم كانت النعمة أيضاً –بدءاً بالمجتمع العربي- الذي يعاني-إضافةً إلى معاناة الجاهلية- من الأمِّيَّة، فكان يتطلع إلى أن يأتي من ينقذه، من يخلِّصه من جاهليته، ومن أمِّيَّته؛ فلذلك يقول الله “سبحانه وتعالى” في القرآن الكريم يبين نعمة الله العظيمة، التي هي نعمة على البشرية بشكلٍ عام، وفي المقدِّمة على المجتمع العربي، يقول الله “جلَّ شأنه”: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ}[الجمعة: الآية2]، فأمِّيَّتهم جعلتهم يعيشون في حالةٍ من الضياع، الضياع البيَّن، الواضح، أمة ليس لها هدف، أمة لا تسير في الاتجاه الصحيح، أمة ضائعة في دينها ودنياها.
فلذلك كانت نعمةً كبيرةً من الله، أن منَّ الله عليهم وبعث فيهم سيد الرسل، وخاتم الأنبياء، وأنزل القرآن العظيم؛ ليحقق هذه النقلة الكبيرة والهائلة جداً، لينتقل بهم من انحطاط الجاهلية ودناءتها، ومن حضيض الأمِّيَّة وجاهليتها وجهلها، إلى هذه النقلة الكبيرة جداً والعظيمة على المستوى الروحي، والثقافي، والفكري، والسلوكي، والحضاري، {يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ}، ثم يصنع منهم أمةً عظيمة، تتميز بهذه المميزات الراقية جداً: بهدى الله “سبحانه وتعالى”، وبالسمو الروحي، والأخلاقي، والثقافي، والفكري، والحضاري، فمثَّلت هذه نقلةً كبيرة، ونقلةً عظيمة.
تشريف الأمة برسالة الإسلام
هذه الرسالة بكتابها العظيم، بهداها المتميز، تمثِّل شرفاً كبيراً لكل من يتَّبعها، وشرفاً للأمة التي تتحرك على أساسها؛ ولذلك يقول الله “سبحانه وتعالى” لرسوله “صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله”: {وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ}، فهو مع ما فيه من تذكير، ومن هداية عظيمة، فهو شرفٌ كبير لمن يؤمن به، لمن يتحرك على أساسه، شرفٌ تسمو به النفوس، وشرفٌ تسمو به الأمم في واقعها، والأقوام، ومن يتَّبعه على مستوى الواقع أيضاً، على مستوى النتائج والثمرة الطيبة التي تتحقق في واقع الحياة.
حتمية الانتصار للرسالة الإلهية
مع هذه النعمة، وهذا الشرف الكبير، هو أيضاً دينٌ من الله “سبحانه وتعالى”، ورسالةٌ إلهية حتمية الانتصار، مكتوبٌ له الظهور، مكتوبٌ له الغلبة، مكتوبٌ له النصر، يسانده الله، هو دين الله “سبحانه وتعالى”؛ ولذلك يقول الله “سبحانه وتعالى”: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ}، فهو حتمي الانتصار، مكتوبٌ له أن ينتصر حتماً.
الانسجام مع الفطرة البشرية
الجاذبية في القيم والمبادئ
ولعل أعظم مثال لهذا هو ما قدمه الرسول “صلوات الله عليه وعلى آله”، من جاذبية على مستوى كماله الإنساني والأخلاقي، ورشده العظيم، ومميزاته ومؤهلاته التي وهبه الله “سبحانه وتعالى”، وتأثيره الكبير، وقدراته التبليغية الراقية، وكفاءته العالية لأداء هذه المهمة العظيمة، بتأهيلٍ من الله “سبحانه وتعالى”.
قريش.. موقف سلبي
رغم كل ما سبق من العناصر الإيجابية للرسالة إلا أن الموقف في مجتمع مكة-الذي بدأت فيه انطلاقة هذه الرسالة- كان موقفاً سلبياً، فقد كانت التجربة في المجتمع المكي -في أكثريته باستثناء القليل- تجربةً فاشلة في التعامل تجاه هذه النعمة العظيمة، فكان موقف أكثرهم هو الكفر بالرسول، وبالرسالة الإلهية، وبالقرآن الكريم، والإعراض عن هذا الشرف الكبير، والتنكُّر لهذه النعمة العظيمة.
أبرز أسباب الموقف السلبي للمجتمع القرشي
هناك مجموعة من الأسباب والعوامل الرئيسية، تمثِّل درساً مهماً لكل شعب، لكل بلد تجاه التجربة في التعامل مع هدى الله “سبحانه وتعالى”، وخطورة بعض العوامل السلبية، التي لها نتائج سيئة جداً:
- العامل الأول/ استكبار الملأ منهم:
أكثر زعمائهم ووجاهاتهم المؤثِّرة في المجتمع استكبرت من أن تتبع هذه الرسالة، وأن تتقبل هذا الهدى، يقول الله عنهم في القرآن الكريم: {وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ (6) مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ إِنْ هَذَا إِلَّا اخْتِلَاقٌ (7) أَأُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنَا}
فكان خلاصة موقفهم يترتب هنا: {أَأُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنَا}، فالحالة حالة استكبار من الملأ، كلٌّ منهم يريد أن يكون هو من يُبعَث رسولاً، من يأتي إليه الوحي، لأنهم يفهمون أنَّ الرسالة موقع سلطوي، ومنصب زعامة فحسب، وهذا هو الموضوع الرئيسي عندهم.
- العامل الثاني الطمع والمعايير المادية:
عندما بدأ النبي “صلوات الله عليه وعلى آله” تحركه بتبليغ الرسالة الإلهية، ولأنه لم يكن من أثرياء القوم، ولا صاحب ثروة هائلة وإمكانات مادية ضخمة، ولم يستند في دعوته تلك إلى الإغراءات المادية، فكثيرٌ منهم أعرضوا عنه، واعتبروا هذا سببا كافياً ألَّا يتَّبعوه؛ لأنهم لم يكونوا يؤمنون بأنَّ القوة إلَّا في جانب المال والثروة، وأنَّ الإنسان قويٌ ونافذ بقدر ما يمتلك من مال وثروات؛ وبالتالي يُبنَى على ذلك الإتِّباع له؛ لأن الإتِّباع له سيحقق مصالح ومكاسب مادية.
وعلى هذا الأساس كانوا يوجِّهون الانتقادات إلى النبي “صلوات الله عليه وعلى آله”، وكانوا يتحدَّثون عن هذا الجانب كمعيار يعتمدون عليه، ولذلك يقول الله عنهم:{وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ}.
فكانت نظرتهم المادية ومعيارهم المادي، وأطماعهم وجشعهم، من العوامل السلبية التي أثَّرت عليهم، في أن يؤمنوا بالحق، أن يقبلوا بالرسالة العظيمة، ونحن نشاهد هذا في هذا الزمن بشكل كبير جداً.
- العامل الثالث / المخاوف:
حكى الله عن بعضهم أنهم قالوا: {وَقَالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا}، قالوا: نحن إذا اتَّبعنا هذا الهدى-هنا هم يعترفون بأنه هدى-معك، فمحيطنا بكله العربي والعالمي، اتجاهه اتجاه مختلف معك، واتجاه آخر؛ وبالتالي يعاديك، ويحاربك، ونحن سنكون قلة أقلية في بلدنا، ماذا نستطيع أن نفعل؟ فستكون حالتنا هي هذه الحالة التي لا نستطيع فيها الثبات على موقفنا، ولا أن نواجه كل هذه الضغوطات والتحديات من حولنا، ولا أن نصد هذا الاستهداف عن أنفسنا، فعبَّروا عن ذلك بقولهم: {نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا}.
ثم تطوَّر هذا الموقف (موقف الأكثرية في مكة) من الكفر والإعراض عن هذا الهدى العظيم، وعن هذه الرسالة العظيمة، إلى المحاربة لهذه الرسالة، والصد عنها، وتثبيط الآخرين عنها، حتى أنهم كانوا يستهدفون كل الوفود التي تأتي من مختلف القبائل العربية إلى الحج، ليحذِّروها من رسول الله “صلوات الله عليه وعلى آله”، ومن الإسلام، ومن القرآن العظيم، وليحرِّضوها ضد رسول الله “صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله”.
تطورات سلبية متصاعدة
مرحلة اليأس لم يكتف غالبية المجتمع المكي بعدم الاتباع للرسالة الإلهية، بل تطوَّر موقفهم، وازداد استكباراً، وعتواً، ونفوراً، وكفراً، إلى أن وصل إلى مرحلة سيئة جداً، بات أكثرهم في وضعية غير قابلة لأن يؤمنوا أصلاً، وصل بهم الحال إلى الابتعاد كلياً عن الإيمان بالرسالة الإلهية، ولهذا يقول الله “سبحانه وتعالى” عنهم: {لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلَى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ}، وصلوا إلى مرحلة اليأس من إيمانهم.
مرحلة العناد والتمادي نتيجةً للحال السيئ الذي وصلوا إليه من العناد والكفر، يقول الله عنهم- يعبِّر بذلك عن مستوى الحال الذي وصلوا إليه، وما قالوه هم، -: {وَإِذْ قَالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ}، حالة غريبة جداً، حالة رهيبة جداً، لكن هكذا يصنع العناد، والتمادي في الكفر، حالة يفقد الإنسان كل العناصر الإنسانية فيه، المشاعر الطيِّبة، يفقد زكاء نفسه بالكامل، وتفسد نفسيته بدرجة رهيبة جداً وشنيعة، هذه فيها درس كبير، وعبرة كبيرة لكل إنسان، ولكل مجتمع؛ ليكون حذراً.
مرحلة الاستهداف/ وعندما بلغ المجتمع القرشي إلى هذه الحالة السيئة اتجه إلى المحاربة الشرسة للرسالة الإلهية، وللاستهداف للنبي “صلوات الله عليه وعلى آله”، والتآمر المباشر على شخص النبي “صلوات الله عليه وعلى آله”، كما يقول الله “جلَّ شأنه”: {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ}.
سنة الاستبدال .. مجتمع الأنصار
بعد أن كان الله سبحانه وتعالى في المراحل الماضية يصبِّره، أن يصبر، أن يستمر، ويقول له: {وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ}، {فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلَا تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ} فصبر، وواصل، وثبت لفترة زمنية طويلة-لما يقارب 13عاماً-ولكن بعد أن وصل كفار قريش إلى هذه الحالة السيئة والخطيرة جداً في محاربتهم للرسالة الإلهية، أتى الإذن من الله للنبي بالهجرة: {فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَمَا أَنْتَ بِمَلُومٍ}.
وعندما أتى من الله الإذن بالهجرة، هاجر النبي “صلوات الله عليه وعلى آله” من مكة إلى المدينة، حيث كان هناك مجتمع آخر في المدينة، يتكون هذا المجتمع من قبيلتين هما: الأوس، والخزرج، من قبائل اليمن.
(الأنصار) وسام الشرف الإلهي
حظي هذا المجتمع-المكوَّن من الأوس والخزرج-بأن يكون هو المجتمع الذي نصر النبي “صلوات الله عليه وعلى آله” والذي يحضن هذه الرسالة الإلهية، وأن يحظى بالشرف الكبير في نصرة هذه الرسالة الإلهية.
فقد حظي بوسام شرفٍ كبير، سمَّاهم الله “سبحانه وتعالى” بالأنصار، هذه التسمية من الله، ولها دلالة كبيرة، وتعتبر بالفعل وساماً عظيماً ومشرِّفاً، عندما يسميهم الله “سبحانه وتعالى” بالأنصار، الذين نصروا رسول الله من الأوس والخزرج، واستقبلوا هذه الرسالة في بلادهم، وكانوا أنصاراً للنبي “صلوات الله عليه وعلى آله”، آمنوا، ونصروا، وتميزوا بأن إيمانهم وإسلامهم لم يكن فقط مجرد إقرار، بل تجنَّدوا، وانطلقوا بكل إمكاناتهم: بأنفسهم، وبأموالهم، وبكل جهودهم، لنصرة هذه الرسالة الإلهية.
فالمجتمع (مجتمع الأنصار) حظي بشرفٍ كبيرٍ جداً، والإسلام انتصر، وعلت رايته، وأولئك في يومٍ من الأيام وقفوا كطلقاء مستسلمين في مكة، عندما فتح الله مكة لنبيه “صلوات الله عليه وعلى آله”، وخسروا هذا الشرف العظيم.
العامل الإيجابية للمجتمع المدني
وهذه العوامل ذات أهمية كبيرة، يجب الاستفادة منها في كل زمان ومكان؛ لأنها عوامل تؤهل أي مجتمع للقيام بالدور العظيم، الدور المشرِّف، في التحرك على أساس هدي الله ورسالة الله “سبحانه وتعالى”.
هذه العوامل العظيمة والمهمة جداً نحتاج إليها على المستوى التربوي، على مستوى واقعنا كشعبٍ يمني، وعلى مستوى أمتنا الإسلامية بشكلٍ عام، هي ذات أهمية كبيرة جداً في تأهيل الأمة للنهوض بدورها، دورها الحضاري، دورها الرسالي، دورها في الحركة في هذه الحياة على أساس مبادئها، وقيمها، وأخلاقها، والتمسك بدينها، وقرآنها، ونبيها.
وتحدث القرآن الكريم عن هذه العوامل الثلاث، في ذلك المجتمع الذي نصر الرسول، فيقول الله “سبحانه وتعالى”:{وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}.
العامل الأول/ {يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ}:
القلوب السليمة من الأحقاد والضغائن، القلوب المعمورة بالمحبة لمن يتحرك معهم ضمن هذه الرسالة العظيمة، فهم يحبونه، والمحبة لمن تجمعه بك القضية الواحدة، المبدأ الواحد، التوجه الواحد، وهذا الحب يعني السلامة من الأنانية، يعني التخلي عن العقد والطموحات الشخصية، والأمة بحاجة إلى أن تتحرك على نحوٍ جماعي؛ لأن المسؤولية مسؤولية جماعية، والقضية قضية جماعية، والمسيرة مسيرة جماعية.
مسيرة الإسلام هي مسيرة جماعية، فمن أول متطلباتها الأساسية: هو أن يحمل من يتحرَّكون فيها المحبة لبعضهم البعض، وصفاء القلوب على بعضهم البعض، وأن يتخلَّصوا-بالتالي-من كل الآثار السيئة التي تؤثِّر على ذلك، من كل ما يحرِّك الأضغان، والأحقاد، والأنانيات، والحساسيات، والعقد في النفوس، على البعض تجاه البعض الآخر أو تجاه الآخرين.
- العامل الثاني/ {وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا}:
روحية العطاء هي روحية مهمة جداً، ومحبتك الخير للآخرين من حولك، وأن تريد لهم الخير، وأن تحب لهم الخير، هذه علامة تدل على خيريتك في نفسك، على أن في نفسك الخير، ويحمل إرادة الخير للآخرين؛ وبالتالي لا حساسية عندك إذا أعطي هذا، أو أعطي ذاك، شيئاً مما يحتاج إليه في حياته، لن تمثل مثل هذه الأمور حساسيات وعقد.
وهذه النقطة مهمة جداً، إذا لم يحمل أي مجتمع من المجتمعات، تجمعه قضيةٌ واحدة، ومبدأٌ واحد، إرادة الخير للجميع؛ فيكون هذا منشأً لظهور حالات الأنانيات، والاستياء، والحساسيات الشديدة.
- العامل الثالث/ {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ}
وهذه ميزة عظيمة جداً، ومؤهل كبير جداً، للنهوض بالمسؤوليات الكبيرة، والمواقف والأعمال العظيمة، أن يكون الإنسان يُؤْثِر على نفسه، حتى في الظروف الصعبة، {وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ}، وهذه روحية عالية جداً، أن يكون الإنسان إلى هذا المستوى، في أخلاقه، في روحيته، في إخلاصه لقضيته، فهو إلى درجة الاستعداد أن يُؤْثِر على نفسه، عنده اهتمام كبير بقضيته، عنده استعداد عالٍ للتضحية، للبذل، عنده اهتمام كبير بنجاح الموقف، والوصول إلى الغاية، ولو قدَّم ما قدَّم، ولو آثر على نفسه، {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ}، حتى في الظروف الصعبة، حتى عند الحاجة الشديدة.
وختاماً… نؤكد أن في هذه المقارنة بين الثلاثة العوامل السلبية التي حرمت قريشا من فضل نصرة الرسالة الإلهية، وخرجوا بتسمية الطلقاء، وبين الثلاثة العوامل الإيجابية التي منحت الأنصار شرف نصرة الرسالة الإلهية، ونالوا من الله شرف التسمية بالأنصار.. نجد في هذه المقارنة:
– نتعلم درساً مهماً نحتاج إليه في كل مرحلة، وفي كل مكان
-نبني أسساً ذات أهمية كبيرة جداً على المستوى التربوي، حتى ضمن التوجه النهضوي، للأمة التي تنهض، للأمة التي لها قضية كبيرة، وتواجه تحديات كبيرة.
-نكون أمة تظهر أمامها العوامل السلبية؛ لتحذر منها.
-نكون أمة تظهر أمامها العوامل الإيجابية؛ لتأخذها بعين الاعتبار، على المستوى التربوي والتثقيفي، وعلى مستوى الانطلاقة العملية.
؛؛؛؛؛؛؛؛ وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آل سيدنا محمد ؛؛؛؛؛؛؛؛