جرح الزمان.. مجزرة تنومة تعكس قبح نظام آل سعود وتاريخه الأسود
لم تكن مذبحة واحدة بل مذبحتين تبعهما إجهاز وتصفية للجرحى والناجين من النيران المباشرة، وقد راح ضحية المذبحتين أكثر من 3000 حاج على يد عصابات عبدالعزيز آل سعود، الذي ما زال أحفاده يمضون على ذات النهج الإجرامي والوحشي والدموي، وقد كانت هاتان المذبحتان تدشينا لعهد سعودي جديد ضد اليمن، وقد سُجّلت المذبحتان كواحدة من أسوأ الجرائم السعودية ضد الإنسانية.
بداية المذبحة
تعود القصة إلى عام 1341/ هـ”، 1923م، عقب سيطرة عبدالعزيز بن سعود على مناطق نجد والحجاز وعسير، وإخضاعها لحكمه المستبد بالقوة، وقد كان عبدالعزيز يُخضع المناطق والقبائل العربية لحكمه بالدماء والقتل والاستباحة، وخلال السنوات الأولى لحكمه المستبد الذي بدأ في العام 1919م، ارتكب مجازر وفظائع مروعة هادفا من ذلك إلى تكريس الحكم بالقوة والدماء، وقد ارتكب المذبحتين في تنومة وسدوان بحق الحجاج اليمنيين خلال سفرهم إلى الحج لابسين ثياب الإحرام، قاتلا ما يزيد عن ثلاثة آلاف حاج منهم.
قبل مائة عام.. في ظهيرة يوم الأحد الموافق 17 من ذي القعدة 1341هـ / 1 يوليو 1923م، حطَّت الفرق الثلاث من الحجاج اليمنيين لصناعةِ طعامِ الغداء ظهرا، وهم آمنون لا يدرون عما قد دُبِّرَ لهم بليلِ الشياطين، وما قد حيك لهم من مؤامرةِ إبادةٍ شاملةِ، وهم بلا سلاح، ولا تأهُّب، ولا شعورٍ لهم بشيء، ولما شدَّ بعضُهم أثقالَه بعد الغداء، وبعضهم كان لا يزال في حال الغداء، وبعضهم في حال الشد، إذا بجيشِ عبدالعزيز ابنِ سعود الكامن لهم قد أحاط بهم من كل الجهات، وإذا به يصليهم نارا، ويباشر بإطلاق النار في جباههم ورؤوسهم وصدورهم بشكل كثيف.
منذ ذلك التاريخ حتى اليوم مرت مائة عام، جرت في النهر دماء كثيرة، لم يتوقف آل سعود عن الإجرام والقتل والفتك باليمنيين يوما، مائة عام حارب خلالها السعوديون اليمن ملكية وجمهورية وحدوية وشطرية، وقتلوا اليمنيين جماعات وأفرادا وبالجملة والمفرّق، على اختلاف مناطقهم وأنسابهم ومراكزهم الاجتماعية والعلمية والسياسية، وفيما نستذكر اليوم مجزرة الحجاج الكبرى قبل مائة عام تتواصل فصول الإجرام السعودي بعدوان مستمر منذ ثمانية أعوام استخدمت مملكة العدوان فيه كل الأسلحة الفتاكة والذكية حاصدة آلاف الشهداء والجرحى ومدمرة للبنى والمنشآت.
جرت عادة الــحــجــاج الــيــمــنيين أن تكون لهم قافلة واحدة، تحت إمرةِ أميرٍ واحد، وقد انطلقت قافلة الحجاج من صنعاء في 6 شوال 1341/هجرية، أو في تاريخٍ مُقارِب، ولاشتهارِ مواعيدِ حركة الــحــجــاج ومحطاتهم في الطريق ودقة مواقيتها، كان الــحــجــاج من المناطق الواقعة بين صنعاء ومــكــة ينتظرون قدوم القافلة في تلك المواعيد المتفق عليها سلفا لينضموا إليها، ولكونهم كانوا يذهبون مجتمعين لا يتفرَّقون كان يُطْلَق عليهم اسم (العصبة)، وكان أمير الــحــج في ذلك العام السيد العلامة محمد بن عبدالـلـه شرف الدين، وسبق له مراسلة حاكم عسير الأمير عبدالعزيز بن إبراهيم يستفسره عن طريق الحج وأمانها.
سبق المذبحة أن سيطر عبدالعزيز آل سعود على تلك المناطق، ونشر فيها جنوده النجديين وتحكم بطرقاتها وأمنها وكل تفاصيل الحياة في تلك المناطق التابعة لعسير التي رضخت لحكم ابن سعود في وقت مبكر من المجزرة، وبمجرد وصول الــحــجــاج الــيــمــنيين ذلك العام إلى أطراف مناطق عسير المحتلة من قبل عصابات ابن سعود شعروا بأن ثمة من يراقبهم ويترصد بهم، وقد كانوا يخشون قطاع الطرق لكن جواب حاكم عسير طمأنهم أنهم لن يتعرضوا لأي مكروه.
طريق الحجاج اليمنيين
تحرَّك الــحــجيج مجتازين مناطق كثيرة وصولا إلى أطراف بني الأسمر (سدوان)، وإلى حدود بني شهر في (تـنـومـة)، فحطَّت القافلة الأولى والكبيرة في تـنـومـة، والتي تبعد عن أبها حوالي 125 كيلو متراً، وحطَّت قافلتان في سدوان الأعلى وسدوان الأسفل، واللتين تبعُدان عن تـنـومـة بحوالي 10 إلى 15 كيلو متراً، إلى الجنوب الشرقي منها، وكان أميرُ الــحــج في الفرقة الأخيرة التي نزلت في سدوان الأسفل.
لقد أحاطوا بمن في تـنـومـة وهي الفرقة الأكبر، وطلعوا عليهم من أعلى الوادي وأسفله وهم على خيولهم وإبلهم، وهجم المشاة عليهم من رؤوس الجبال، فتابعوا الرمي عليهم ببنادقهم من كل جهة، فاستُشْهِد معظمُ من كان بهذا الوادي من الــحــجــاج، وقتِل أكثرُ دوابهم، وأُخِذَتْ أموالُهم، ولم يفِرَّ منهم إلا القليل، حاول بعضُهم المدافعة بما أمكن، وكانت قلة قليلة جدا منهم لديها سلاحٌ ناري وذخيرة فقاتلوا به حتى كمُل ما معهم، فقُتلوا، وكان بعض الــحــجــاج ينتظر الموت لحظة بلحظة، وكانوا يقرأون سورة ياسين، ولكن كان رصاص جنود ابن سعود أسرع إلى أرواحهم منهم إلى إكمال تلاوة سورة ياسين.
بدأوا هجومهم عليهم برميهم بالبنادق من رؤوس الإكام، ثم نزلوا إليهم يقتلون من عرفوا أنه لا يزال حيا، فكانوا يمرون من بين جثثهم، فمن أصابه عيارٌ ناري وبه رمَقٌ من حياة جاؤوا ليذبحوه أو يطعنوه بحادٍّ للتأكد من فراقه للحياة، وإجماعُ حديث النـاجــين بأنهم جميعا ممن غاصوا بين الدماء تظاهرا بالموت يدل على بشاعة سلوكِ هؤلاء مع الجرحى إجهازا وفتكا؛ فهذا السيد ضيف الـلـه المهدي على سبيل المثال من محل العرينة عمار محافظة إب، أحد النـاجــين من هذه المــذبــحــة، نجا؛ لأنه رمى بنفسه في مكان فيه دماءٌ كثيرة، وامتدَّ بينها كالميت..
رئيس الــيــمــن الأسبق القاضي عبدالرحمن الإرياني ذكر أن مقاتلي ابن سعود كانوا يتنادون فيما بينهم بقولهم: (اجتلوا المشرج)، أي اقتلوا المشرك، وسمع أحدُ النـاجــين من آل الذويد من مدينة صعدة وكان قد تظاهر بالموت بين الجثث، سمع أولئك النجديين وهم يطوفون بين القتلى، وأحد قادتهم يسأل جنوده: كم قتلتَ؟ فإذا قال: واحد، قال له: لك قصر في الجنة، وإذا قال له: اثنين، قال له: لك قصران، وهكذا كان يبشرهم بقصورٍ في الجنة بعددِ من قَتَلوا من حــجــاج بيت الـلـه الحرام.
المذبحة الثانية في منطقة سدوان
بعد أن أباد جنود آل سعود الفرقة الكبيرة من الحجاج اليمنيين في تـنـومـة عطفوا على الفرقتين في سدوان، واللتين كانتا تبعدان عن الأولى بحوالي 10 إلى 15 كيلومتراً، وفعلوا بهما كما فعلوا بالأولى، إلا أن القتل في الأولى كان أوسع وأعظم، وهذا يشير إلى أن النـاجــين كان أكثرهم من فرقتي سدوان، الفرقتين الأخريين، وأن عامل الوقت كان سببا من أسباب نجاة الكثير منهم، بيد أن الوهابيين النجديين من عصابات آل سعود لم يكفِهم ذلك، بل انطلقوا لمطاردة الهاربين فمن أدركوه قتلوه، ثم بعد ذلك استولوا على غنائم أولئك!! الــحــجــاج!!، فاستولوا على كل ما كان في أيديهم وأثقالهم ودوابِّهم، من المال والقراش والبضاعة، وأخذوا جميع أمتعة أولئك الـشــهــداء.
القاتل عمل جاهداً على وأد القضية وطمس الأدلة
على اختلاف الروايات إلا أن المؤكد بأن عدد الشهداء يزيد عن 3000 شهيد، وهو العدد الذي استقرَّ عليه حديث الجانب الرسمي الــيــمــني، فقد كتبت جريدة الإيمان، ونقلت عنها مجلة المنار أن عدد الشهداء في تنومة وسدوان “يربو على ثلاثة آلاف شهيد، قُتِلوا ظلما، وهم عزَّلٌ من السلاح، آمين بيت الـلـه الحرام”، وتكرَّر هذا في جواب الإمــام يــحــيـى حميد الدين على رسالة محمد رشيد رضا إليه بشأن علاقته مع ابن سعود، بقوله: “من قَتْلِ نحوِ ثلاثةِ آلافِ مسلم“ ومثله ورد لدى الواسعي وغيره.
وأما فئاتهم وخلفياتهم القبلية والمناطقية والوظيفية والاجتماعية فإنهم ينتمون إلى مُخْتَلَف ألوان الطيف الاجتماعي والمكاني في الــيــمــن، فهم من جميع مناطق الــيــمــن ومن جميع فئاتِه ومكوناتِه وتنوعاتِه، وقد كان الإمــام يــحــيـى “يقول ويكتب وينشر أن كل بيت في الــيــمــن، يحمل ثأرا دمويا على الدولة السعودية يطالبه بالإذن له، بأخذه بالقوة الحربية”، وروي عن السيد الأستاذ علي بن محمد الذاري عن القاضي العلامة محمد بن إسماعيل العمراني أنه قال: إن المعدِّدة (نادبة الأموات) لم يخْلُ منها بيتٌ من بيوت أهل الــيــمــن بعد المــجــزرة، وأنه كان هناك استعدادٌ شعبيٌّ عارمٌ وواسعٌ للاستجابة لداعي الجهاد ضد ابن سعود.
يؤكد الباحث الأهنومي في كتابه “مجزرة الحجاج الكبرى” بأنه ومن خلال اطلاع الباحث لمناطق الـشــهــداء وكذلك النـاجــين ووظائفهم ومراتبهم الاجتماعية يتبين أنهم ينتمون لمختلف فئات ومناطق الــيــمــن، وأنهم كانوا من ألوية إب، وذمار، وصنعاء، وعمران، وحجة، وصعدة، وغيرها، وتصف جريدة الإيمان الــيــمــنية خلفياتهم الفئوية بأن فيهم “العلماء والفضلاء والأشراف”، كما تذكر سيرة الإمــام يــحــيـى أن الـشــهــداء كانوا من “العلماء وفضلاء السادة، وكثيرٍ من الضعفاء، رزقهم الـلـه الشهادة، وزفَّهم إلى غُرَف السعادة”، وتضيف القول: “وقلَّ أن تخلو قرية من قرى الــيــمــن عن مصاب بعض أهلها بين هؤلاء الــحــجــاج”، و “أن المعلوم أن غالب أولئك الــحــجــاج عمَّهم القتل”.
تصفية الناجين والإجهاز على الجرحى
كثير من النـاجــين تظاهروا بالموت بين الدماء، ويحكي السيد زبارة كيفية نجاة أمير الــحــج في المخطوط من كتابه نزهة النظر، بأنه أظهر أنه مقتول، فلما جاء الليل مشى على رجليه، وترك جميعَ أدواته، إلا الثوب الذي فوقه، وواصل سفره إلى مــكــة. ويبدو أن ذلك الثوب لم يسلم من النهب كما هو مقتضى رواية السيد ضيف الـلـه المهدي الآتية، أما الذين طالتهم سكاكين دواعش ابن سعود وفصلت رؤوسهم عن أجسادهم من أولئك الـشــهــداء فعددهم 900 شهيد.
ومع ذلك كله فإن مَنْ نجا منهم بعد تلك الأهوال تلقاهم أهل القرى القريبة من محل المــجــزرة، كما تقول سيرة الإمــام يــحــيـى، فسلبوهم ما بقي معهم من أموالٍ محمولة، “وسلبوا ما عليهم من الثياب”، وبحسب رواية السيد ضيف الـلـه المهدي أحد النـاجــين من المــذبــحــة فإنهم لم يتركوا عليهم سوى السراويل، وأن جمعا من الــحــجــاج من بينهم أميرُ الــحــج وصلوا إلى أحد المراكز الحكومية وليس عليهم إلا السراويل، وقد ترجَّح للباحث أن ذلك المركز هو مركز بارق في تهامة المحاذية لبني شهر من جهة الغرب، وهو مركزٌ كان حينها يخضع لحكم الشريف حسين ملك الــحــجاز، ومنه أبرق أمير الــحــج إلى شريف مــكــة.