|| صحافة ||

رغم سيل التصريحات التي تدفقت من منابر الخليج سواء من ترامب أو زعماء الخليج، فإن تصريحين لترامب يعبران جليا عن هذه الجولة، أولهما قول ترامب، إنها "جولة قياسية جمعت ما بين 3,5 و4 تريليونات دولار خلال هذه الأيام الأربعة أو الخمسة فقط"، والثانية تجديد ترامب لرغبة أميركا في احتلال غزة وقوله "إنه "سيكون فخورًا لو تملكت الولايات المتحدة الأمريكية الأمر وجعلتها منطقة حرية"، وهو ما يدل عن أن الجولة كانت بالفعل قياسية، ولكن على مستوى الخيانة التاريخية وتفريط أنظمة الخليج.

بعد عام وأكثر من سبعة أشهر من حرب إبادة تدار بعقل وسلاح وتمويل وغطاء أمريكي، تنافست فيها إدارتا بايدن وترامب على دعم الكيان علنًا، وهو ما يدل على أن أميركا هي صاحبة الحرب، والكيان هو المتصدر للواجهة، كان من المفترض في أضعف الإيمان أن تشهد العلاقات العربية الأمريكية جفوة أو ـ على الأقل ـ ضغوطًا باستخدام أوراق اقتصادية طالما أعلن النظام الرسمي العربي إفلاسه عسكرياً وافتقاده لإرادة المواجهة.

ولكن، وعلى عكس المنطق بجميع فروعه الأخلاقية والإستراتيجية والسياسية، وجدنا تنافسًا خليجيًا على مكافأة أميركا والتقرب إليها، كأنها صلاة شكر خليجية لأميركا بسبب استهدافها وحربها على المقاومة للخلاص من "صداع محور المقاومة"، وهو ما لم تخفِه أقلام ووسائل الإعلام الخليجية التي احتفت بترامب وأظهرت نشوة كبيرة بضعف وعزلة "محور المقاومة" وفقاً لقراءتهم أو ـ بالأحرى ـ أمنياتهم وأوهامهم.

والحديث عن خيانة النظام الرسمي وخاصة الخليجي للقضية والتواطؤ مع أميركا والكيان، أصبح حديثاً مكرراً وأصبح من العبث، لأنه يوضح الواضح والمفروغ منه، ولكن ما يعنينا هنا هو مناقشة هذه النشوة الزائفة بالانتصار ورسم ملامح شرق أوسط جديد يخلو من المقاومة، وهل فعلاً حوصرت المقاومة ودخلنا في حقبة أمريكية صهيونية خليجية تشكل ملامح الشرق الأوسط الجديد؟

هنا، نود مناقشة الأمر عبر عنوانين كبيرين، أولهما يتعلق بقراءة الخليج للمشهد وماتحاول تصديره من صورة وتضغط من أجل إتمامه لتصفية مشروع المقاومة، والثاني هو دلائل قوة المقاومة والتي ظهرت من سياسات وإجراءات ترامب التي استبقت جولته الخليجية "القياسية" وفقاً لتعبيره، وذلك تالياً:

 

أولاً: قراءة الخليج الواهمة للمشهد الإقليمي:

اتضحت جلياً من تغطيات الإعلام الخليجي وكلمات بن سلمان وترامب، أن هذه الجولة تحاول ترسيخ صورة عهد جديد على أنقاض المقاومة، وهذه الصورة مبنية على عدة عوامل:

1- سقوط النظام في سورية وسيطرة نظام معادٍ للمقاومة وبالتالي تلميعه وإعطاء الشرعية له ورفع العقوبات وخلق نظام حكم وكيل للمصالح الأمريكية والخليجية وإدخاله حثيثاً إلى الاتفاقات الإبراهيمية والتطبيع، وهو ما يشكل حصاراً لوجستياً للمقاومة وقطعاً للتواصل بين جبهات المقاومة.

2- الضغط المكثف على الدولة اللبنانية لنزع سلاح المقاومة وترتيب الأوضاع في لبنان على غرار سورية، تصوراً أن المقاومة ضعفت، وأن هذا التوقيت هو التوقيت الملائم لتفتيتها، قبل ترميم القوى واستعادة العافية.

3- تصور أن إيران في أضعف حالاتها بعد استهداف أبرز وأغلى قادة المقاومة، وعلى رأسهم الشهيد السيد حسن نصر الله، وأنها في ركن ضيق يمكن لأميركا والخليج من خلاله تمرير الإملاءات أو انتزاع التنازلات أو إجبارها على التقوقع وراء حدودها.

ولا شك أن تجاهل مصر والأردن وعدم لقاء ترامب بقادتهما يدل على طبيعة الشرق الأوسط الجديد القائم على التعاون الأمريكي الصهيوني الخليجي، بقواعد جديدة وممرات تجارية جديدة تجعل من دول المنطقة، بما فيها مصر وسورية والعراق ولبنان والأردن توابع وهوامش تخلو من نقاط القوة والضغط، وتخضع فقط للإملاءات بذريعة مسايرة الأمر الواقع الجديد.

 

ثانياً: إجراءات ترامب الاستباقية الكاشفة للاحتيال والنصب:

وما يجعلنا نقول، إن هذه النشوة زائفة، وإننا أمام أكبر جريمة احتيال ونصب أمريكية، وإننا أمام، إما سذاجة تاريخية أو خيانة قياسية من جانب دول الخليج هو عدة دلائل وشواهد استبقت جولة ترامب، تدلل على قوة المقاومة وعدم صحة الصورة التي تم تصديرها بأن اميركا منتصرة ومهيمنة وقادرة على قيادة الشرق الأوسط الجديد بالصورة التي تدعو لهذا التهافت الخليجي على إرضائها.

 

ويمكننا رصد عدة إجراءات أمريكية استبقت الجولة للتدليل على ذلك:

1- المسارعة والضغط من أجل وقف الحرب بين الهند وباكستان، بعد تجاهل أمريكي في بداية الأمر فضح أن اشتعالها مصلحة أمريكية لجر الصين إلى الصراع وتوتير الأوضاع على حدود الممر التجاري الصيني.

وهذه المسارعة حدثت، بعد ظهور السلاح الصيني وتفوقه على السلاح الغربي، وهو ما يهدد سمعة السلاح الغربي ويؤثر في مبيعات السلاح الأمريكي والذي يشكل ملفًا كبيرًا في جولة ترامب بمليارات الدولارات، ورغم ذلك اندفعت السعودية لعقد أكبر صفقة سلاح غير مسبوقة بين الولايات المتحدة والسعودية، وصفها البيت الأبيض بـ"الأكبر في التاريخ". ويشمل الاتفاق الذي أُبرم بحضور الرئيس الأمريكي دونالد ترامب وولي العهد السعودي محمد بن سلمان، معدات عسكرية متطورة بقيمة 142 مليار دولار.

2- إعلان أميركا وقف إطلاق النار مع الحوثيين، رغم عدم سعي المقاومة اليمنية لهذا، بل وإعلان التحدي لأميركا واستهداف حاملات طائراتها واستمرار قصف العمق الصهيوني وتركيز استهداف مطار اللد "بن غوريون" لفرض حصار جوي على الكيان.

وهذا الإعلان الأمريكي كان بلا شك للحفاظ على هيبة أميركا التي تدعي حماية المنطقة وحماية دول الخليج، وقد جاء ترامب ليقبض ثمن حمايته للخليج، رغم فشله في حماية قواته البحرية وطائراته المسيرة، وفشله في حماية عمق الكيان، وهو الحليف الأوثق ورأس الحربة الأمريكية في المنطقة.

3- التظاهر الأمريكي وتصدير الخديعة بأن هناك خلافاً بين نتنياهو وترامب، وأن أميركا ترغب في إنهاء الحرب وأنها تتفاوض مع "حماس" وذلك لخدمة هدفين:

 

أولهما: حفظ ماء وجه الأنظمة كي لا تبدو أنها تكافئ من يقود الحرب.

ثانيهما: الحفاظ على الهيبة الأمريكية ونسبة الفشل إلى نتنياهو، باعتباره معانداً لأميركا وهو من يتحمل هذا الفشل، رغم ان نتنياهو لا يملك إرادة مستقلة ولا يستطيع التصعيد إلا بضوء أخضر وطمأنة أمريكية.

ولا شك أن اضظرار أميركا للتعامل المباشر مع حماس للإفراج عن رهينة تحمل الجنسية الأمريكية هو أكبر اعتراف بقوة المقاومة.

4- حرص أميركا على المفاوضات مع إيران رغم الثبات الإيراني ورفض الإملاءات ورفض التنازل عن الثوابت هو دليل مضاف على قوة المقاومة وثباتها، لأن الأمر لو كان مجرد مكابرة غير مبنية على قوة، لما انتظرت أميركا دقيقة واحدة لتشن عدوانًا على إيران.

5- عدم مقابلة الرئيس اللبناني جوزيف عون رغم رشوح تقارير بلقاء له مع ترامب، هو أكبر دليل على قوة حزب الله وأن مسألة نزع السلاح بالطريقة الأمريكية مستحيلة، وأن الرئيس عون لا يستطيع تنفيذ هذه الرغبة الأمريكية وتعريض وحدة لبنان للخطر.

 

استخلاص:

نحن أمام أكبر قضية احتيال ونصب أمريكي منذ عقد اتفاق كوينسي في العام 1945 والقاضي بحماية أميركا للسعودية مقابل النفط، والذي تطور ليشمل حماية دول الخليج مقابل الثروات، وهي جريمة قائمة على دجل أمريكي وسذاجة وتفريط تاريخي خليجي بسبب الحقد على المقاومة والذي دفع هذه الدول لتفضيل سقوط غزة وتصفية القضية وفرض "إسرائيل الكبرى" على وجود مقاومة ومحور يحافظ على حقوق الأمة وثوابتها، ولكن هذه النشوة الزائفة سرعان ما ستتغير مع صمود المقاومة وكشف اهتراء هذا التحالف أمام قوة المقاومة الكامنة المنتظرة للأوامر والتوقيت المناسب.

 

العهد الاخباري: ايهاب شوقي