مراحل جهاد رسول الله الاستراتيجية العسكرية وقلة خسائر حروبه
د. حمود الأهنومي
رسول الله ابتدأ جهاده العسكري بالجهاد الدفاعي، ويمكن تصنيف حركة رسول الله الجهادية العسكرية استراتيجيا – بحسب بعض الباحثين – إلى أربع مراحل:
المرحلة الأولى:
مرحلة الحشد، وهي المرحلة المكية إلى بداية نشوب الحرب بين الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وقريش في العهد المدني، وهي مرحلة كان الرسول القائد صلى الله عليه وآله وسلم في نهايتها قد أكمل حشد جيش يؤمن بعقيدة واحدة، وله هدف واحد، وقائد واحد، ومنهجية واحدة، وقاعدة انطلاق واحدة.
لقد استطاع الرسول صلّى الله عليه وآله وسلم أن يلجأ الى المدينة ويحشد قواته فيها، ويوحّد صفوف سكانها على اختلاف ميولهم وأهوائهم ودياناتهم، ويجعلهم كتلة متّحدة للدفاع عنها ضد الغارات الخارجية كما نصّت على ذلك وثيقة المدينة.
وعلى الرغم من أن المسلمين وحدهم- على قلّتهم يومذاك- هم جيش الرسول صلّى الله عليه وآله وسلم الذي يعتمد عليه في كفاح أعدائه، إلا أنه صلّى الله عليه وآله وسلم استطاع أن يغرس فيهم عقيدة راسخة يؤمنون بها كل الإيمان، وأن يجعل لهم أهدافا واضحة كل الوضوح يبذلون في سبيل تحقيقها أرواحهم وأموالهم.
لقد كانت أهدافهم الدفاع عن الإسلام والعمل على حماية حرية انتشاره، ومواجهة المعتدين الظالمين من المشركين واليهود والنصارى الذين خططوا وأعدُّوا ونفَّذوا الهجوم على المسلمين، وأرادوا استئصال الإسلام ونبيه وأتباعه، وفي سبيل ذلك بذل المسلمون المجاهدون مع رسول الله كلّ غال ورخيص.
ويمكن أن نجد شبها لهذه المرحلة في واقع المسيرة القرآنية في تحرك الشهيد القائد في مران بإلقاء المحاضرات وإرسال الشباب إلى الجامع الكبير وجامع الإمام الهادي للصرخة في وجه المستكبرين، وسجن المكبِّرين، وقد تتكرر هذه المرحلة في فترات لاحقة وقد تستمر أيضا مع المراحل اللاحقة جنبا إلى جنب.
المرحلة الثانية:
هي مرحلة الدفاع، وذلك عندما نشب القتال بين المسلمين وبين قريش بعد إنجاز دور الحشد، فبدأ دور الدفاع عن الدين والعقيدة، وقد بدأت هذه المرحلة بإرسال السرايا الدفاعية الأولى للقتال إلى انسحاب (الأحزاب) عن المدينة المنورة بعد غزوة (الخندق)؛ وفي هذا الدور ازداد عدد المسلمين، فصمدوا دفاعا عن عقيدتهم ضد أعدائهم الأقوياء، وحقَّقوا إنجازات عسكرية معتبرة، وباتوا رقما صعبا في الجزيرة العربية لا يمكن تجاوزه، وقوة لا يستهان بها، بل إن رسول الله قال كلمته المشهورة بعد أن عاد الأحزاب مهزومين، قال: (اليوم نغزوهم ولا يغزوننا)، وهو أمر مؤذنٌ بنهاية مرحلة الدفاع وابتداء مرحلة الهجوم. وكانت مرحلة من أصعب مراحل الجهاد العسكري عند المسلمين.
المرحلة الثالثة:
بعد غزوة (الخندق) بدأ دور (الهجوم)، بالقضاء على خيانة بني قريظة، ثم صلح الحديبية، ثم القضاء على وكر الدس والمؤامرات في خيبر، ثم فتح مكة، والقضاء على غطرسة وغرور القرشيين، وانتهى هذا الدور بعد غزوة (حنين) مع ثقيف وهوازن، وبهذا الدور انتشر المسلمون في أرجاء الجزيرة العربية كلها، وأصبحوا قوّة ذات مكانة وكيان واضح وقوي، وباتت دولة الإسلام قوة كبيرة جدا، هي أول قوة في الجزيرة العربية.
المرحلة الرابعة:
كانت الدور الأخير من أدوار جهاد الرسول القائد عليه وعلى آله أفضل الصلاة والسلام في سبيل الإسلام، وهو دور (التكامل والمزاوجة بين الهجوم والدفاع)، وهو من بعد غزوة (حنين) إلى أن التحق النبي صلّى الله عليه وآله وسلم بالرفيق الأعلى، فتكاملت قوات المسلمين بهذا الدور، فكان الرسول يزاوج بين الهجوم في مكان والدفاع في مكان آخر، فهو يهجم في بعض المناطق العربية المتاخمة لدولتي فارس والروم، وفي نفس الوقت يتخذ وضعية دفاعية في مواجهة الروم، وإن بشكلِ هجومٍ استباقي، كما حصل في مؤتة، وتبوك في مواجهة الجيش البيزنطي الروماني.
وقد حقق رسول الله إنجازات عظيمة غيرت مجرى التاريخ؛ يقول السيد القائد في خطابه الأخير في المولد النبوي الشريف1443هـ: إنه “لم يتوان -صلى الله عليه وآله- عن مواصلة الجهاد، والتصدي للأعداء، ودفع شرهم وفسادهم، حتى حطَّم كيان الطاغوت، وثبَّت دعائم الإسلام، وأحقَّ الله بجهاده، وجهوده، ومساعيه العظيمة الحق، وأزهق الباطل، وتصدَّى لكلِّ التحديات، متوكلاً على الله تعالى، واثقاً بنصره، مقدِّماً التضحيات، وصابراً على كل أنواع المعاناة، ومثابراً، لا يكل ولا يمَلُّ، يتلقّى من الله تعالى التوجيهات”، ويقول: “فكان -صلى الله عليه وآله- يكثِّف نشاطه لتعبئة الأمة، ورفع روحها المعنوية، وتذكيرها بالمسؤولية، وتحريضها للجهاد، ويُشْرِفُ على مهماتها الجهادية، يأمر، ويوجِّه، ويحرِّك، ويتابع، ويدير، ويبعث السرايا العسكرية، ويتابع تحركات الأعداء، ويبعث العيون والطلائع، دون غفلةٍ، ولا كللٍ، ولا مللٍ، ولا توانٍ”.
الرسول يغير مجرى التاريخ
لقد غيّر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بتحركه الجهادي العسكري مجرى التاريخ، ونقل العرب والعالم نقلة كبيرة في واقعهم الفكري والديني والثقافي والسياسي والاقتصادي والاجتماعي والعسكري، ورغم أن العرب كانوا أمة مقاتلة ومحاربة، وقد اعتادوا على القتل والقتال، وكانوا في بيئة ووضعية محاربة مقاتلة كما ذكر ذلك الشهيد القائد رضوان الله عليه، وهذا أمر يُصَعِّبُ من مهمة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم العسكرية، إلا أن خسائر جميع حروب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في مختلف الجبهات مع المشركين ومع اليهود والنصارى كانت أقلَّ بكثيرٍ مما كان يجب أن تكون عليه، سواء كانت تلك الخسائر في صفوف المسلمين أو في صفوف خصومه الكافرين.
ذكر السيد القائد رضوان الله عليه في ذات خطاب –إن لم تخني الذاكرة- أن عدد القتلى في عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بلغوا فقط 386 شخصا، منهم 183 من المسلمين، و203 من المشركين واليهود، وهناك من المؤرخين مَن بالغ في أرقام تلك الخسائر، ولكنه مع تلك المبالغة لم يذكر إلا عددا معقولا، وهو أن عدد قتلى غزواته وسراياه لم يتجاوز 1400 شخصا من المسلمين والكافرين جميعا، وهذا عدد يظل قليلا بالنسبة لضخامة الحروب وطولها وكثرة الأعداء وتنوعهم ولمدة 11 عاما متواصلة.
وبالمقارنة بين خسائر حروب الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، وهي التي حققت إنجازات كثيرة، ونقلات نوعية واضحة وبينة، مع خسائر الشعوب في الحرب العالمية الأولى التي لم تحقق إلا الدمار والخراب، نجد أن خسائر الحرب العالمية الأولى بلغت أقل من عشرة ملايين نسمة فضلا عن الخراب والدمار الذي لحق بالممتلكات، كل ذلك في غضون أربع سنوات (1914- 1918م)، أما خسائر الشعوب في الحرب العالمية الثانية في غضون ست سنوات أيضا (1939- 1945م) فقد بلغت أكثر من ستين مليونا من القتلى المدنيين والعسكريين، كما قتل سبعة عشر مليون طفل بالغارات الجوية، ودمّر ثلاثون مليونا من الأبنية، واثنان وعشرون مليونا من المساكن، عدا المآسي المروّعة التي صاحبت الحرب.
والسؤال المهم الآن: كم ستكون خسائر الإنسانية في حرب عالمية ثالثة، وقد أصبحت الأسلحة التي استُخْدِمَتْ في الحرب العالمية الثانية قديمة جدا، وكأنها لعب أطفال بالنسبة للأسلحة النووية والصواريخ عابرة القارات، ونحوهما مما سيُسْتَخْدَم إذا نشبت حرب عالمية جديدة.
كل ذلك يبين الفارق الكبيرة لصالح عبقرية الرسول العسكرية ذات المرجعية الأخلاقية، التي التزم فيها بقوانين الإنسانية في الحرب، فقد روى أهل البيت عليهم السلام عن الإمام علي أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان إذا بعث جيشا من المسلمين بعث عليهم أميرا، ثم قال: (انطلقوا باسم الله، وبالله، وفي سبيل الله، وعلى ملة رسول الله، أنتم جند الله، تقاتلون من كفر بالله، ادعوا إلى شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، والإقرار بما جاء به محمد بن عبدالله، فإن آمنوا فإخوانكم في الدين، لهم ما لكم، وعليهم ما عليكم، وإن هم أبوا فناصبوهم حربا، واستعينوا عليهم بالله، فإن أظهركم الله عليهم فلا تقتلوا وليدا، ولا امرأة، ولا شيخا كبيرا، لا يطيق قتالكم، ولا تغّوروا عينا [عين ماء كالآبار والينابيع والغيول]، ولا تقطعوا شجرا، إلا شجرا يضركم، ولا تمثِّلوا بآدمي، ولا بهيمة، ولا تظلموا، ولا تعتدوا).